دبلوماسيتنا تستند على التضامن والأتفاق السلمي بين الشعوب

نوبهار مصطفى

تعايشت المجتمعات البشرية عبر التاريخ فيما بينها في سلام ووئام ونظمت العلاقات بينها بشعائر وقيم أخلاقية تتميز بروح التعاون وحب المشاركة فيما بينها، مبنية على حسن علاقات الجوار أيضا،(مهما تواجدت الأختلافات بينهم). لكن بعد تطور المدنية وظهور الحضارات، تشكلت المدن والدويلات، وتغيرت أنماط الحكم من ملوك وقادات دينية وتشكيلات عسكرية، وبرزت المصالح المبنية على المنفعة والطمع في خيرات الجوار، لتتحول أنماط العلاقات من تعاضد وسلام إلى استيلاء وحروب استعمارية. وعندها توقفت نمط العلاقات المبنية على التكافل والتكامل بين المجتمعات البشرية، لتأخذ صيغة إعلان الحروب بين السلطات أو البدء بوقفها وفق معاهدات واتفاقيات. حينها ظهرت مسألة الدبلوماسية على مسرح التاريخ.

الدبلوماسية هي كلمة مأخوذة من الكلمة اللاتينية diploma وترجمتها باللغة العربية هي وثيقة رسمية. تدل على معنيين حسب التعريف الأصطلاحي- أولها الوسيلة وثانياً سلوك. وسيلة لإجراء المفاوضات بين الأمم عبر إرسال ممثلين إلى بلدان أخرى لاستمرار العلاقات اليومية وكسب مكاسب سياسية واقتصادية لبلادهم، كما أنها تجري المفاوضات قبل الحروب، فالإعلان عن حرب أو ايقافها مرتبط بالعمل الدبلوماسي بين الدولتين أو عدة دول. كما تعني البحث في العقود التي تصل بين الدول، وسيلة للأتصال والتفاهم بين الجماعات البشرية المتجاورة. وهي سلوك اجتماعي تفرضه الحاجة إلى التفاهم وتبادل المنافع وتحقيق السلام. واتخذت الدبلوماسية أشكال كثيرة منها دبلوماسية الملوك، أو العلاقات بين الكتل مثل كتلتي المسيحية والأسلامية في العصور الوسطى، دبلوماسية امريكا والاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة، دبلوماسية الأحلاف في الحروب العالمية، دبلوماسية بين دول متحضرة وغير متحضرة.

بتطور الرأسمالية ونشوء الدول القومية كأحد عناصر الحداثة الرأسمالية، اتخذت الدبلوماسية أشكالا وأبعادا مغايرة، وبات النشاط الدبلوماسي وسيلة لتوطئة الحروب الناشبة، أو البحث عن الربح الرأسمالي، وأعلانها للحرب أو تهدئة الأوضاع مرتبطة بمصالح الدول، فعندما لا تجد داعياً للحرب فإنها تسير فعالياتها الدبلوماسية في إطار تهدئة الأوضاع والحفاظ على حالة اللاحرب بينهم، أما إذا اضطر الأمر إلى الحرب لكسب الربح فلا تتوانى عنه، وعندها تنتهي الدبلوماسية، أي انه شكل النشاط الذي يسبق اندلاع الحروب بين الدول، والأمثلة التاريخية تعطي دروساً في هذا المضمار. هذه الدبلوماسية لا تستند الى أية قيمة أخلاقية أو العلاقة المتسمة بالقيم النبيلة مثلما كانت موجودة بين وحدات المجموعات البشرية في بدايات التاريخ. فلقد باتت أداة لتهيئة أجواء الحروب، وليس لأستتباب السلم، بل علاقات رسمية بين الدول لتكوين الأحلاف بأسلوب الضغط أو بالتهديد.

بالطبع يلتزم العمل الدبلوماسي للدول بمعايير صارمة يدعى البروتوكول وهو عبارة عن اتيكيت خاص بقواعد الدبلوماسية وشؤون الدولة، حيث توجه الكيفية التي يجب أن يؤدي بها تصرف أو نشاط ما، خاصة في مجال الدبلوماسية مثل إظهار الأحترام مراعاة الترتيب الزمني وقواعد اللباقة كاللباس والجلوس والآداب، ترتيب وتنظيم وإعداد برنامج زيارات الوفود الرسمية الزائرة، استقبال توديع، تنظيم مؤتمرات، إعداد قائمة السلك الدبلوماسي.

بعد هذا السرد الموجز عن الديبلوماسية تعريفها ودورها وأنماط العلاقات العامة والدولية، نعود لتقديم التعريف الاسلم للعلاقات. فمثلما تلجأ الدول الى الدبلوماسية لتوطيد علاقاتها مع الجوار والدول الأخرى، فإن الشعوب بدورها تلجأ إلى العلاقات والاتفاقيات الديمقراطية لبناء جسر التواصل وإقامة علاقات الأخوة والصداقة، فهي لا تنظر إلى العلاقات من منظور دولتي وحصرها في أطر السفراء والوزراء وعقد العلاقات بناء على المصالح الدولتية، بل تتقرب وفق قناعة أخرى وهي على الشعوب التوحد من خلال التواصل الإنساني، من خلال تفهم خصوصية كل مجتمع، ومعرفة الأشياء المشتركة بين المجتمعات المختلفة. لأن الشعوب ما يجمعها يساوي إضعاف ما يفرقها. بالتالي ليس من المستبعد أن تؤثر هذه الشعوب بالعلاقات -التي تبنيها فيما بينها- على حكوماتها بدلاً من النزعات والأقتتالات الطائفية، المذهبية، القوموية، السياسية.

تشكل الثقافة مرتكزاً في العلاقة بين الشعوب والدول، فهناك ترابط كبير بين الأنماط الثقافية للشعوب وعلاقتها بالآخر، مثلها مثل الإمكانيات الاقتصادية والعسكرية. التواصل الثقافي بين الدول والشعوب يمهد تكوين علاقات إيجابية ويفرز التعارف بين البشر تحقيق أهداف مشتركة ويزيل الخلاف الفكري ويزيل الصور السلبية الناتج عن خلافات وصراعات سياسية ويؤدي إلى نشر السلام بدءاً من سلام الإنسان مع نفسه وانتهاءً بالسلام مع الآخرين شعوباً ودولاً.

الأكراد عبر التاريخ كانوا عرضة لتأثيرات العلاقات الدبلوماسية سواء الايجابية منها او السلبية، فلدى التوغل في التاريخ الكردي العابر نجد أن الأكراد كشعب ومجتمع سعوا دائماً إلى بناء أواصر العلاقات الطيبة مع الجيران، واللقى الآثرية العائدة للامبراطورية الميتانية والهورية والميدية، وأيضا للشعوب الآخرى كالفراعنة والبابليين تثبت هذه الحقيقة، فهي تكتنف على وثائق تعبر عن الرسائل المرسلة بين الملوك ذات الأصول الميتانية والفراعنة أو الملوك من المكونات الآخرى، وفيها تتوضح النوايا الحسنة المتواجدة بينهم. وأيضا نشهد الدبلوماسية السلبية المستندة للربح والمصالح الدولتية التي اضحى الشعب الكردي قربانا لها عبر التاريخ، آثر الانقسامات التي منعت من التواصل بين المجموعات من جهة، أو قربان للدبلوماسية المبنية على المصالح الشخصية والعائلية من جهة اخرى.

الأكراد كانوا ضحية ألاعيب الدبلوماسية خلال القرنين الماضيين، ونالوا نصيبهم المأساوي خلال الحربين العالمين العالميتين، فمصالح الرأسمالية عملت على استغلال الأكراد كورقة ربح ضمن دبلوماسيتها، ومن بعدها جعلتها قربان التطهير العرقي، بالطبع هذه النتائج الوخيمة في تاريخ الشعب الكردي تعود لأسباب عدة، وهي إن الاكراد لم يلجؤوا إلى الأساليب العصرية ولم تولي الاهتمام بالجانب الدبلوماسي في ثوراتها المندلعة. فالفعاليات الدبلوماسية لها دور عظيم الأهمية والإيجابية لحفاظ الكرد على وجودهم ونيل حريتِهم.

يشعر الكرد في حاضرنا بمسيس الحاجة إلى الدبلوماسية، سواء بينهم وبين جيرانهم، أو على الصعيد العالمي. لكن ليست كدبلوماسية الدول القومية أو بالمفهوم الرأسمالي، إنما هم بحاجة إلى دبلوماسية الأمة الديمقراطية التي تعني إرساء السلام وحسن الجوار بين المجتمعات لحل الخلافات وأطفاء نار الحروب وأخماد مشاعر الحقد والضغن بين الشعوب وبين هوياتها السياسية أو الدينية أو القومية أو المذهبية، وحينها ستتقارب الأفكار. فدبلوماسيةَ الدولة القومية فيما يتعلق بالكرد ليست حلالة، بل كانت شاهدة على العديد من الأدوار السلبية التي أسفرت عن الانسداد وتصعيد الأشتباكات والنزاعات بين مختلف أجزاء كردستان، ولهذا السبب بالتحديد، ثمة حاجة ماسة لدبلوماسية جديدة. أي، لدبلوماسية الأمة الديمقراطية.

تكمن مهام دبلوماسية الأمة الديمقراطية في تشكيل محفل مشترك بين الأطراف الكردية وهو المؤتمر الوطني الديمقراطي لإزالة الخلافات وأحداث التقارب بين التكتلات السياسية والاجتماعية، يجمع كل الشخصيات والتنظيمات والشرائح، ينتخب هيئة ادارية مسؤولة عن السياسة الكردية والعلاقات الدبلوماسية الداخلية والخارجية. وتشكيل مؤسسة ديبلوماسية مشتركة لتحول من الانقسامات النابعة عن تعدد مصالح التنظيمات، اي هي مهمة وطنية. والمؤتمر الوطني الديمقراطي سيمثل جميع الشخصيات والتنظيمات والطبقات والشرائح الوطنية والديمقراطية.

بوسع دبلوماسية الأمة الديمقراطية أن تؤدي دوراً جامعاً بين شعوب الشرق الاوسط، بدلاً من دبلوماسية الدولة القومية التي أحدثت فوضى واشتباكات بين بلدان المنطقة. فهي أداة لإرساء السلم والتعاضد والتبادل الخلاق فيما بين المجتمعات في كنف تقاليد الأمة الديمقراطية، بحل القضايا العالقة وتعزز علاقات الصداقة فيما بين الشعوب المتجاورة.

مستوى حرية مجتمع ما مرتبط طرداً مع مستوى حرية المرأة. النضال من أجل حرية المرأة  يتطلب النظرية والمنهاج والتنظيم والممارسة العملية، فقد جرى أبعاد المرأة عن المجتمع وهمش دورها منذ آلاف السنين، لذا الكفاح الجنسي ليس بأمر هين وبسيط، فهو يعني كمن يحفر بئراً بإبرة. وحرية المرأة كفيلة بدمقرطة المجتمع والسياسة، فلا سياسة ديمقراطية بدون المرأة، ولا علاقات واتفاقيات ديمقراطية بدون المرأة. والنضال التحرري الجنسي يسير على عدة دعائم كالفكر الحر وبناء التنظيمات الخاصة بالنساء، ويتوجب على تلك التنظيمات الخاصة من تشكيل ومأسسة نشاطاتها الدبلوماسية باسم العلاقات والاتفاقيات الديمقراطية، أي اخذ نشاط العلاقات مأخذ الجد، لأن بناء الأمة الديمقراطية -في محور تحرر المرأة-  تتطلب بناء علاقات دائمة بين جميع نساء المجتمع على اختلاف هوياتهن القومية، العقائدية، الأثنية. مثل إقامة العلاقات بين النساء الكرديات، السريانيات، العربيات، الأرمنيات، ومن جميع الأديان والطوائف. والجدير بالذكر أن المرأة في روجآفا خطت هذه الخطوة بتوطيد العلاقات فيما بينها والإعلان عن مبادرة المرأة السورية. حيث يتعين على النساء السوريات توطيد العلاقات فيما بينها على اختلاف وجهاتها السياسية، خاصة بعد الوقائع الشاهدة عن أن المرأة هي المتضرر الأكبر من الحرب المستعرة في سوريا، ولابد من المرأة السورية التخلص من حالتها التي باتت فيها قربان حروب لتصل الى موقع تشهد فيه للعالم أن النساء هن مقاومات الحروب ولسن قرابين. والمقاومات التي أبدتها المرأة في صفوف YPJ  وفي ميادين أخرى زادت من هذه القناعات، وحفزت النساء للأنخراط في العمل أكثر من ذي قبل.

المهمة الثالثة الملقاة على عاتق التنظيمات النسائية الديمقراطية هي تطوير العلاقات والنضال المشترك مع الحركات النسائية الشرق أوسطية، فهي تجتر نفس الألم وتحمل نفس الآمال، كي يجري تبادل الأفكار والخبرات والاستفادة من تجارب بعضهن البعض. بالطبع التغييرات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط والمستجدات الأخيرة فتحت افقاً أوسع وفرصا أكبر لابد من استغلالها من أجل  إيصال المكتسبات لنظام نسوي شامل. إضافة إلى تحقيق التحالفات مع الحركات الفامينية العالمية، والحركات النسائية الديمقراطية والايكولوجية. وأن تتوج هذه النشاطات بانشاء محافل نسائية عالمية لتوفير المنبر اللازم لتتحدث به عن مشاكلها وطرح الحلول المشتركة.

لدى قيام المرأة للنشاط الدبلوماسي لابد من الابتعاد عن نمط دبلوماسية الدول القومية. وتلك النشاطات يجب أن تدخل في مضمار تحجيم الدولة وإضعاف سلطتها، وبناء دبلوماسية بديلة بعيدة عن البيروقراطيات، وذلك عبر العمل وفق منظور إقامة العلاقات الديمقراطية بين الشعوب.

المرأة الكردية في روجآفا في ظل بناء الأمة الديمقراطية أولت أهمية كبيرة للنشاطات الدبلوماسية للمرأة، وبنت لجان العلاقات والمؤسسات الدبلوماسية العائدة لها، بهدف توحيد صف المرأة الكردية سواء في روجآفا ومع التنظيمات النسائية في الأجزاء الأخرى بهدف العمل المشترك المنادي لحرية قائد الشعب الكردي “عبد الله اوجلان” وتمخض عن هذا النشاط انعقاد الكونفراس الوطني النسائي مرتين في آمد و هولير، وتهدف إلى انعقاد الثالث في روجآفا.

لجان العلاقات الخاصة بالمرأة خطت خطوات جديرة رغم النواقص البارزة ورغم تهميش دور المرأة في المجتمع والاستهزاء بأي عمل تقوم به من قبل المجتمع الذكوري، فلم يعط المجتمع الذكوري قيمة لنشاطاتها الديبلوماسية والنظر للأمر كأمر هامشي وثانوي ليس له أهمية. ومازالت هناك تقربات تنظر للدبلوماسية بمنظور دولتي وهي الالتزام فقط ببعض البروتوكولات وحضور المحافل الدولية، أو اللقاء مع مسؤوليين دوليين من المستوى الرفيع على حد القول، دون ايلاء الاهتمام لعلاقات الشعوب فيما بينها والتعايش السلمي بحسن الجوار.

العامل الثاني الذي يؤثر على سير النشاط الدبلوماسي النسائي هو افتقار التنظيمات النسائية لكوادر نسائية مخولة للقيام بهذا العمل، لأنها تفتقر إلى الخبرة في السلك الدبلوماسي. فهي التجربة الأولى التي تخوضها المرأة في مسار الدبلوماسية والأمر يحتاج إلى اكاديمية تخرج الكوادر القادرة على ممارسة هذا العمل باحترافية، تتحلى بالجدية في العمل، الثقة بالذات وتمثيل القضية، الى جانب التميز بالأسلوب اللبق والخطابة المتمكنة، للقدرة على إيصال الفكر التحرري الجنسوي وتجربة الإدارة الذاتية والمكتسبات التي خلقتها نضالات المرأة في ظل الثورة، ليصبح مثالاً يحتذى به. ومثلما تمكنت المرأة من تولي الريادة في اندلاع الثورة، وكانت السباقة في بناء تنظيمها الديمقراطي، سيكون النجاح حليفها في النشاط الديبلوماسي أيضاً.

قد يعجبك ايضا