بعض الأمثلة على أبحاث العلم الاجتماعي البديل المتمحور حول علم المرأة

كونول كايا

 يقوم علم الاجتماع ذو الجذور الغربية بابتداء نظامه الفكري من الغرب و يعمل على ربط الحراك الاجتماعي وابتدائه من الثورة الفرنسية، ناكراً، غير معترفاً بما قد عاش سابقاً. لذا فهو علم حاف، مجزأ، ناقص ومتطرف. لا يحضن كافة شعوب العالم، بل يستند على النتائج الظاهرة من التجارب التي عاشت في أوروبا فقط. لا يقتات من الفلاسفة والحكماء السابقين، ويغض النظر عنهم بالرغم من وجود فلاسفة شرق أوسطيون قاموا ببعث الفلسفة اليونانية القديمة من جديد ونقلها مرة أخرى للغرب. يعلن الغربيون الذين ذاتهم مركزاُ لكل شيء وكأن التنوير قد نزل عليهم وحيا من الله. تناول جغرافية العالم بشكل مجزأ هو مؤشر على تطرف السوسيولوجيا المتكونة من قبلهم. في الوقت الذي يتم فيه وضع الغرب في موضع الذات فإنه يتم تشيئ الباقي. ولدى إظهار الغرب ذاته مركزاً للدنيا، فإنه يرى كل الأماكن الأخرى أماكن يحق لها استغلالها. أما المرأة فلا يمر اسمها حتى بمرور الكرام. كافة مميزات علم الاجتماع الغربي طبعت بطابع الهيمنة الذكورية. ليس هناك جانب ملموس فيه باسم المرأة، المجتمع وكافة المظلومين.

في الواقع تم تعريف السوسيولوجيا قبل أوغست كومت بكثير، ابن خلدون الفيلسوف الإسلامي التونسي هو واحد من اللذين قاموا بوضع أول تعريف لعلم السوسيولوجيا والتاريخ. بالطبع فإن الطابع المهيمن الذي يفرضه الفكر الغربي لا يدعه أن يعترف لا بأبن خلدون ولا بشيخ بدر الدين. بل أكثر من ذلك فإنه يتم تجاهلهم. اختيار الغرب ابتداء علم الاجتماع من المفهوم الذي بينه أوغست كومت هو تلبيةً لمصالحهم.

إن أردنا التطرق إلى علم ابن خلدون بشكل موجز، التاريخ ليس مجرد كومة من الاحداث أو أنه لا يعبر عن معنى الاحداث فقط بل إنه أسلوب يثبت درجة صحة ما يتم روايته. كيف إنه للمادة طبيعة خاصة بذاتها، فإنه للمجتمعات الإنسانية أيضا طبيعة مختلفة خاصة بها وتتميز بالديمومة، كما لها علاقة النتيجة والسبب. يتناول ابن خلدون الأحداث بشكل مرتبط بالظروف الاجتماعية، والأثنية، والثقافية، والاقتصادية بل وحتى الجغرافية. وكأسلوب يتخذ العقلانية أساساً. يقوم ابن خلدون بمهمة رئاسة الوزراء لمدة إلا أنه يفضل نذر ذاته للعلم.

الاشتراكية كحركة اجتماعية، تعرف بأنها بدأت عملها في الغرب مع الاشتراكيين الخياليين. أما ماركس وانجلس هم مؤسسو الاشتراكية العلمية. بالطبع فإن موديل الحياة المجتمعية الذي سيبنى بإدراك العلم الاجتماعي هي الاشتراكية بحد ذاتها. تكون مبادئ الاشتراكية العلمية بتأثير الفلسفة والسوسيولوجيا الغربية ادى بالاشتراكية إلى أن تشبه النظام الرأسمالي الذي يقع في القطب المناقض لها. لم تستطع نظرية الاشتراكية العلمية التي خرجت كبديل وناقد للفلسفة الألمانية والاقتصاد السياسي الإنكليزي وعلم الاجتماع  الفرنسي اجتياز حدود هؤلاء، لأنها بنت بالأصل مفهومها نظراً لمفاهيم هذه الفلسفات. ولأجله فإنها بالرغم من وقوفها في القطب المضاد لها، شبهتهم. وبتقييمها للدين على إنه أفيون، أزالت عالم المعنويات وطراز التفكير الذي قد عبرت الإنسانية ذاتها به لآلاف السنين من الوسط بجلسة واحدة. لذا لم تستطع الاستفادة من ميراث التاريخ المجتمعي المتراكم لآلاف السنين عامةً.

لقد تأسست الاشتراكية على أساس مناهضة الرأسمالية إلا أنها نسيت بأن الرأسمالية تمثل ذروة النظام المهيمن لخمسة آلاف عام. بل وحتى لكونها اعتمدت المنطق المستقيم والمباشر للتاريخ قامت بتقييم المرحلة الرأسمالية على أنها المرحلة الأكثر تطوراً مقارنة بالمراحل التي سبقتها، وبالتالي رأت الوصول للرأسمالية وعيشها هو ضرورة وحاجة للوصول إلى الاشتراكية. وهو ما شرع الرأسمالية. بسبب هذه النواقص الظاهرة من الناحية الذهنية لم تستطع الاشتراكية التي هي ولادة لعصرٍ جديد ان تحلل حقيقة قضايا المجتمع. بالطبع فإن تجربة الاشتراكية المشيدة هي ميراث هام نسعى إلى تبنيه وتحليل سبب نواقصه. إنشاء الاشتراكية الديمقراطية من جديد هي من أهم المواضيع التي يجب على العلم بحثه ودراسته. ولا بد من القول بأن إنشاء الاشتراكية من جديد على أساس الديمقراطية يمكن فقط من خلال تبني وتقييم ميراث مقاومة الحركات المجتمعية التي عاشت على مر التاريخ المجتمعي عامة.

يفكر شيخ بدر الدين الذي هو عالم اجتماعي بأن “الأرض وإنتاجها هما ملك مشترك لجميع الناس، وإن الناس قد خلقوا متساوون”. وكلما يتعمق شيخ بدر الدين علمياً فإنه يحاسب حقيقة السلطة أكثر، ويصل إلى الرأي بأن القصور والسلطنة هي نتاج البلطجة والاستغلال ويجب مجابهتها. آمن شيخ بدر الدين بأن الحياة التي يمكن أن يعيش فيها الشعب بسعادة وأمان هي الحياة التي يبنيها الشعب بذاته. وإنه لمجابهة النظام الموجود لا بد له أن يسعى بشبابه وأطفاله وشيوخه ونسائه إلى أن يبني لذاته حياة اجتماعية مشتركة. لم تنقص محاولات البناء الحر للحياة الاجتماعية في التاريخ بتاتاً. والقرامطة الذين يتخذون من مفهوم الحياة المتساوية أساساً، وينظمون ذاتهم على أساس ذلك هم خير مثال للمجموعات الشعبية. تأخذ المرأة إلى جانب الرجل مكانها ضمن كافة الفعاليات الاجتماعية لدى القرامطة. القرامطة واحدة من الحركات الاجتماعية الكبيرة التي استطاعت الانتشار قرابة فترة القرنين في أغلبية مناطق الشرق الأوسط. شملت هذه الحركة العديد من المجموعات الأثنية والعقائدية، ولكونها استندت على الفئة الفقيرة والكادحة والقرويين فإنها سميت القرامطة بمعنى حركة القرويين. وكما تم تسميتهم بكومونات الإسلام. بحيث تمكنت من أن تشل تأثير السلطة العباسية إلى حد كبير. إنها ثورة اجتماعية بحد ذاتها.

أما المثال الأكثر لفتاً للانتباه، هم النساء اللواتي قد تم إبادتهن تحت اسم صيد المشعوذات قبل مرحلة الانتقال للرأسمالية. هؤلاء النساء كنَّ حكيمات وذوات تأثير كبير على المجتمع في أوربا لمرحلة لفترة ليست بالقليلة. ربما كن سيصبحن رواد لنهوضٍ اجتماعي بديل يمنع ظهور النظام الرأسمالي في ذلك الوقت. مقاومة هؤلاء النساء هي مقاومة اجتماعية قوية جداً ولإظهار عظمة هذه المقاومة النسائية للعيان يجب إجراء البحث والتنقيب اللازم لتلك المرحلة.

 ما قمنا بسرده هو البعض من الأمثلة فقط ضمن الحركات والمقاومات الاجتماعية، إذ إن الحركات والمقاومات الاجتماعية دامت على مر التاريخ المجتمعي بدأً من مقاومة الآلهات اللواتي قد تركن أثراً عظيماً في المرحلة الميثولوجيا ووصولاً إلى زردشت، ماني، السهر وردي، الحلاج منصور، عرف النبوة، فلسفة التصوف، العلوية، حكماء ودراويش وعلماء الشرق الأوسطيين. كل هذه المقاومات يجب أن تكون محور أساسي للبحث والدراسة، وميراث يجب تقييمه بالنسبة لعلم الاجتماع.

هذه المقاومات هي تراكم ثقافي و ميراثُ آلاف السنين من المقاومة باسم المجتمع. في العصور القديمة كان يتم التعبير عن الفلسفة برمز الإلهة، وصوفيا هي إلهة المعرفة. وعندما نقوم بترجمة مصطلح الفلسفة ( فيلو- صوفيا) الذي هو حب المعرفة بحسب هذه الحقيقة فإنها تعني بالأصل الحب المكنون لصوفيا إلهة المعرفة. هناك الكثير من الفيلسوفات اللواتي لم يكتب أسمهن في عصر يونان القديم الذي عاش الجنسوية بكثافة لدرجة الحط من الحياة مع المرأة.

عصر التنوير كان بمثابة ولادة جديدة باسم الإنسانية، بحيث تصف المجتمع والمرأة الذين كانا مختنقين في ظلمات العصور الوسطى كموجود كريم. حُرق برونو الذي هو واحد من رواد هذا العصر لأنه لم يتراجع عن أرائه الحرة. بالرغم من إظهار الرأسمالية عصر التنوير كأرضية ولادتها، إلا أن عصر التنوير في جوهره هو نهوض مجتمعي بكل معنى الكلمة، وقد غصبت القيم التي خلقها هذا العصر من قبل الحداثة الرأسمالية. على علم الاجتماع أن يقوم بدراسة عرف الفكر والشخصيات التي سعت النظر من منظار المجتمع في التاريخ. كل تجربة قد نتجت عن كل واحدة من هذه الشخصيات بما تتمتع من غنىٍ وفوارق خاصة بذاتها، تمثل الموجه والأسلوب الصحيح المغربل في التاريخ وقيمة لا تقدّر بثمن. وقد انضمت النساء بشكل فعال إلى عرف الفكر هذا، وأثرن فيه، بل حتى لعبن دور الموجه في أغلب الأحيان. محاولات النساء لإجراء التغييرات والتصحيحات في حياة المجتمع كافي بأن يجعلهن ميراث للعدالة والمقاومة التاريخية، رغم محاولات مراكز السلطة الذكورية التعتيم على دورهن في التاريخ. الميراث التاريخي للـجنولوجيا مخفي ضمن كافة الحركات التحررية الاجتماعية والتيارات الفكرية والفلسفية القائمة حتى الآن. تضم الجنولوجية، ميراث كافة حركات النهوض والمقاومة القائمة باسم الإنسانية في الشرق والغرب والعالم بأسره.

لم يعش أي عصر أو حضارة أو تيار فكري بعيداً ومجرداً عن المرأة، بل لعبت المرأة دورها في كافة العصور والحضارات وساهمت في تطوير كافة التيارات الفكرية الظاهرة في التاريخ. والمقولة الشهيرة التي تقول ” وراء كل رجل عظيم أمرأة عظيمة” ليست سوى تعبير عن حقيقة اجتماعية كبيرة. قامت المرأة بتوجيه الرجل دائماً على مر التاريخ على الرغم من أنها نُبذت ولُعنت وسُلب منها حق التعبير عن ذاتها. ولأجله غالباً ما عملت المرأة للتعبير عن أراءها وأفكارها عبر الرجل. تحليل وجود المرأة المؤثر والمخفي بين سطور التاريخ المكتوب، وإعادة تحليل التاريخ من جديد على أساسه هو من المهام الأساسية التي ستقوم بها الجنولوجية أمام التاريخ. النتائج التي ستتمخض عن تحليل التاريخ من جديد لصالح المجتمعات سيشكل الأساس لتعريف صائب لعلم الاجتماع.

نظرة مقتضبة لميراث الجنولوجية التاريخي.

حققت الأم الآلهة ثورة الزراعة والقرية في العصر النيوليتي من خلال ميزتها الإبداعية في جمع المعلومة وخلق القيم الثقافية في المجتمع. أمّن نقل هذه القيم الثقافية إلى المجتمع والأجيال الجديدة بقاء المجتمع صامداً قوياً. علم وحكمة الإلهة الأم هي كومينالية، والهدف هو خدمة المجتمع. المرأة هي الحكيمة الأولى لهذا فإن الحكمة قد ترسخت في روحها وجيناتها التاريخية. إن قمتم بالحديث مع الأمهات المسنات اللواتي لم يخرجن من قراهن ولا يعرفن القراءة والكتابة فإنكن ستسمعون تحليلاً للحياة تفوق تحليلات أكثر الفلاسفة حنكة وجدارة. لأنهن ما زلن يعشن ثقافة الآلهة الأم بالرغم من بقائها على شكل منطقة ضعيفة. الأمومة هي الولادة الأولى لثقافة الحكمة، والأمهات ما زلنّ حكيمات. ثقافة الآلهة هي ثقافة قوية للغاية، لم تستطع العصور العبودية، الاقطاعية، الرأسمالية إبادة ثقافة الآلهة رغم الألاعيب والمؤامرات المختلفة التي حاكوها لأجل إبادتها. وهي ما تزال تديم وجودها وتقاوم وتناهض من يسعى لإبادتها بقوة. وستديم وجودها ومقاومتها لأنها ثقافة اجتماعية، تاريخية وحياتية. وعلى أساسه فإن الجنولوجية هو انبعاث لميراث الآلهة الأم الحكيمة وثقافتها من تحت الأرض، ورجوعٌ لجوهر المرأة مرة أخرى. هذا ليس رجوع إلى الخلف بل إنه حل القضايا الاجتماعية الراهنة بتعاليم الجوهر.

حاول صوت المرأة العلو في كل فرصة على مر العصور. ماهي انعكاسات ثقافة الآلهة الأم في الثقافة الزردشتية؟ هل لدانغ رفيقة ماني الذي كان يقوم بتضفير شعرها تأثير على فلسفته الإشراقية، أو أي أمل للحرية قد وجدته النساء – الملتفات حوله لدى وفاته- في فلسفته؟ من هن قادات القرامطة، وكيف كانوا يقومون بالقيادة؟ من هي المرأة التي جعلت شيخ بدرالدين يقوم بتغيير آرائه بليلة واحدة ويقذف بكل ما كتبه قبل ذلك في نهر النيل؟ من كانت أسبازيا الميليتوسية التي كانت معلمة سقراط ومرشدته لأسلوب الحوار؟ كيف كانت مقاومة هيباتيا الإسكندرية الفيلسوفة التي قالت بأن الأرض دائرية وتدور حول الشمس؟ ما هو مدى تأثير النساء الصوفيات على التصوف؟ يحكى عن العديد من النساء في حكايات الأنبياء، ما هو دور هؤلاء النساء في تكوين إيتوبيا الدين لدى الأنبياء؟ هل كان تعرض آلاف النساء للإبادة تحت اسم صيد المشعوذات هو بسبب ريادتهن لإنشاءٍ اجتماعي بديل؟ فقد تم السعي لغض النظر حتى في التاريخ القريب عن زوجة أينشتاين التي كانت أقرب مساعديه. لماذا تجنب التاريخ المكتوب كتابة اسم ليز مايتنر التي وجدت بأنه يمكن للذرة التي تشكل أساس كافة تكنولوجية راهننا بأن تتجزأ؟.

لم تتوقف المحاولات من جبهة النساء مهما تطرف العلم واحتكر بالأخص مع العصر الرأسمالي، بل على العكس من ذلك كلما تعاظم الاحتكار فإن جهود النساء وبحثهن عن الحقيقة زاد أكثر. وأكثر المراحل التي تطورت فيها مقاومة المرأة بشكل أكثر تنظيماً في تاريخ الهيمنة المركزية هي مرحلة الحداثة الرأسمالية. حققت المرأة بتنظيم ذاتها كحركات فامينية نجاحاً هاماً في نضالها التحرري تجاه احتكارات الحداثة الرأسمالية الجنسوية التي لا تعرف شيء سوى الربح الأعظمي. أصبحت مقاومة الثورات الاشتراكية الشعبية ضد الاستغلال المفروض من قبل الرأسمالية على الشعوب أملً وشعلة تقتدي بها المرأة في نضالها. وقد اخذت المرأة مكانها في صفوف المقاومة الأمامية للثورات في الصين، كوبا، فيتنام، جزائر، فلسطين، جنوب أفريقيا، الثورات السوفيتية، الثورات المناهضة للنظام في أوربا، الثورات الفرنسية، ثورة عام 1848.

وتتمثل هذه المقاومة بأعظم أشكالها اليوم في شخص النساء الكردستانية اللواتي تقمن بريادة النضال التحرري الكردي الممارس في الأجزاء الأربعة من كردستان. ويأتي هذا الانضمام الفعال للنساء للثورة التحررية من اليوم الأول للثورة وإلى الآن من المعنى الذي أعطاه القائد عبد الله أوجلان لانضمام المرأة للنضال التحرري والجهد الذي بذله بذاته في سبيل ذلك. النساء المتحزبات الرائدات للثورة ناضلن على أساس إيديولوجية تحرير المرأة، وعملن من خلال ” نظرية الانقطاع” من حاكمية وسلطة الرجل وكافة أنواع الحكم والسلطة على كسر الهيمنة المفروضة على المرأة مذ خمسة آلاف عام. تبين إيديولوجية تحرير المرأة مقاييس ومبادئ نضال النساء واستراتيجيته. تهدف المرأة التي قامت ببدء مسيرتها النضالية لحماية شعبها وذاتها بالتجييش، والتي بذلت بعدها النضال الإيديولوجي عبر التحزب، إلى تنظيم نظامها الاجتماعي عبر نظام المرأة الكونفدرالي الديمقراطي. ومثلما وصل نضال المرأة الكردستانية إلى يومنا الراهن بالتغذي من الميراث التاريخي للمقاومة فإنه اليوم لأجل بناء الحياة الحرة التي هي حنين الإنسانية قد تم خطو الخطوة نحو علم الجنولوجية. تطوير علم الجنولوجية هو ضرورة لا بد منه لأجل مشاركة قيم المرأة التحررية الظاهرة للعيان مع جميع النساء في العالم والاتحاد لضمان السير معاً. على عكس علم الاجتماع الأوربي المركز المجزأ فإن الجنولوجية تقوم بالتوحيد. لأن جوهر العلم الأصلي هو جامع وشامل.

معرفة تاريخنا هو أهم مرشد لإيجاد الأسلوب الصائب في حياتنا. وبقدر معرفتنا لما أضعنا وأين أضعناه، فإن معرفتنا لما قمنا به ضروري أيضاً لأجل التقرب الصائب لتاريخنا. إخراج الدرس من الأخطاء وتبيان الأسلوب الصائب، إلى جانب الوصول إلى أفضل تنظيم من المقاومات والانتصارات، ممكن فقط بالقراءة الصحيحة للتاريخ. تاريخ المرأة ليس تاريخ الاستغلال والعبودية فقط. يسعى نظام الرجل السلطوي بفرض هذا التاريخ على المرأة، ويعد التاريخ الذي ننال منه القوة بأنه غير موجود. ينكر ماضينا، ويقول إن كان هناك تاريخ لكم فهو تاريخ العبودية والذل والهوان. إخراج تاريخ الفكر والحكمة، الإنتاج والإبداع والمقاومة المخفي والغير مكتوب للمرأة للعيان، سيخرج الجنولوجية للعيان أيضاً وسيهبها الثقة. الجنولوجية هي توحيد التراكم العلمي والفكري المعاش باسم المرأة على مر التاريخ في بوتقة. تعطي الجنولوجية حساً حميماً مقابل برودة عصر العلم الوضعي. وهو ما يعبر عن اختلاف علم المرأة.

تقرب الجنولوجية من الأسلوب العلمي

يتعلق تجزئة المفهوم الوضعي للعلوم بتأسيسه لساحات استغلال أكثر عمقاً في كافة المواضيع. بيد إن كل فرع علمي تأسس جديداً، قد أسس ساحة استغلال جديدة معه. تقسيم العلم كعلوم اجتماعية ووضعية أيضاً يعتبر تعميقاً لمفهوم الاستغلال في الوقت نفسه. تبدأ العلوم الوضعية المنقطعة عن المسؤولية المجتمعية بالعمل كعدو للمجتمع. في الوقت الذي يمكن فيه للعلوم الوضعية إن سخرت إنتاجاتها في خدمة ومصلحة المجتمع أن تحول العالم إلى الجنة، إلا أنها الآن تحول العالم إلى جهنم بمفاهيمها الخادمة للسلطة. الجنولوجية على العكس من العمل على تقسيم العلوم وتغريبها من بعضها البعض فإنها تعبر عن وحدة كافة العلوم. وتهدف إلى توحيد عمل كافة العلوم لخدمة حياة المجتمع. وهذا يعبر عن مفهوم علم المرأة المستند على مفهوم الحياة الأخلاقي والجمالي. الأخلاق في العلم يعبر عن التقرب العلمي الذي يكون يقظاً تجاه المجتمع ويأخذ مصلحة المجتمع أساساً. العلم الأخلاقي يبني الحياة بمقاييس جمالية، والعلم الذي يعمل على أساس هذه المقاييس هو العلم الاجتماعي. العلم الاجتماعي قائم على أساس حل كافة القضايا الاجتماعية. كل عمل علمي يقوم بأخذ مقاييس الأخلاق الاجتماعية وجمالية الحياة أساساً يدخل ضمن إطار العلم الاجتماعي.

على أساسه فإن كل تقرب علمي يدعي خدمة المجتمع بشكل يوازي شمولية حياة المجتمع عليه أن يكون شاملاً أيضاً. ويجب عدم إهمال الشمولية من قبل الأقسام المتخصصة.

إن نظرنا من هذا المضمار فإن علم الاجتماع كلياتي ومتكامل. فإن كنت اجتماعياً يجب أن تكون قبل كل شيء كلياتياً. الكلياتية هي أفضل تدبير وضرورة لعدم الانقطاع من المجتمع. تقرب علمي كلياتي يطور وجهة النظر الفلسفية أيضاً. بيد إن فلاسفة العصر القديم كانوا علماء أيضاً في الوقت نفسه. إلا أن علماء هذا العصر لا يملكون أي نظرة شاملة وفلسفية بشأن الحياة ما عدا النظرة الجافة التجريبية. فإنهم ينتجون ويبدعون العلم ويسلمونه لآمريهم الذين يقومون بدورهم باستخدامه في سبيل غاياتهم التسلطية. في حين إن مبدع العلم هو من ينسج الحياة وهدف الحياة بعلمه، ويقوم بتكوين الحلول لكافة القضايا المجتمعية أيضاً. أخذ العصر الرأسمالي هذه الميزة من علماء يومنا وجعلهم لا يذهبون أبعد من أن يكونوا مثبتين تكنيكيين للمعلومة.

النقطة التي ستبدأ منها الجنولوجية نضالها هي تعريف العلم من جديد وبشكل صائب. عودة العلم لهدفه الاجتماعي ووحدة كافة فروع العلم تحت سقف العلم الاجتماعي هو أمرٌ أساسي. على كافة العلوم المجتمعة تحت سقف العلم الاجتماعي أن يعمل وينتج لصالح المرأة وكافة فئات المجتمع. الاسلوب العلمي الذي ستتخذه الجنولوجية أساساً هو العلم الكلياتي المجتمعي. ومنه فإن الحياة الناشئة تحت نور العلم ستكوّن تقربها الفلسفي والسوسيولوجي. وستأتي بالحلول لحياة المرأة المنبوذة من قبل المجتمع، والعلم والحياة. التقرب والأسلوب السوسيولوجي الذي ستأخذه الجنولوجية أساساً هي الثقافة المجتمعية التي بدأت بالتحول المجتمعي الأول للإنسانية. يعبر القائد أبو عن هذه المرحلة بمصطلح ” المدة الأطول”. أطول مدة كبنية ثقافية في تاريخ الإنسانية هي ثقافة المجتمع البنيوية. وهي تمثل عموم التراكم الثقافي الإنساني. البنية الاجتماعية الموجودة الآن هي النقطة التي وصلت إليه هذه الثقافة وهذا التاريخ. تناول تاريخ المجتمعات على أساس فصله إلى المراحل العبودية، والاقطاعية، والرأسمالية بقدر ما هو ذو فائدة لبحث الاختلاف والتعمق الحاصل في مراحل الهيمنة المركزية، فإنه يجب عدم غض النظر بأن هذه المراحل كافة تمثل سير الهيمنة المركزية كاملاً.  العلم الوضعي يتناول الاحداث القائمة في التاريخ كل على حداً. فإن تم تحليل الأحداث مثل تأسيس الدول وانهيارها، الأوضاع السياسية والاقتصادية… وغيرها فإنه ستكسب معنى سوسيولوجيا. وإلا فإن السرد العام للأحداث لن يساهم بشيء للسوسيولوجيا.

“لحظة السوسيولوجيا” هي الساحة الأهم في السوسيولوجيا. كافة المراحل التاريخية هي وليدة الزمان المتدفق لحظة بلحظة. والمعنى، والجواب المعطى للحظة، والترجيح القائم في اللحظة هو مفتاح التاريخ بأسره. الحرية هي أثر النضال المبذول لأجل الحياة لحظة بلحظة. لهذا فإن اكثر ما يجب أن تتعمق عليه الجنولوجية هو لحظة السوسيولوجيا. لحظة سوسيولوجيا المرأة هي أثر سوسيولوجيا المدة الطويلة، إن ما أثر في ذلك هو الأحداث التاريخية والعصور البنيوية المعاشة. ويمكن الوصول إلى  روح اللحظة بتحليل شيفرات كل هذه المراحل. التاريخ هو الآن، يبين الآن وبالتالي المستقبل أيضاً. والآن هو التاريخ والمستقبل. يستند تقرب جنولوجيا التاريخي السوسيولوجي إلى تكامل الماضي والآن والمستقبل.

بالطبع فإن الابحاث المتعلقة بالمرأة هي ساحة التعمق الأولى بالنسبة للجنولوجيا كعلم متكون بوجهة نظر المرأة. وذلك بسبب تنقية العلم من التقرب الجنسوي السائد فيه. أبعدت المرأة مع تطور هيمنة الذهنية المركزية الرجولية من الساحة الفكرية والذهنية. لم ينقص بحث المرأة وكدحها في هذا المجال على مر التاريخ أبداً، إلا أنه لا يمكننا أن نتحدث عن تدفق وعي نسائي منظم أيضاً. لأن التاريخ الذكوري حرص على إنكار وإبادة أي تدفق فكري نسائي. إذ إن العلم الوضعي لم يرى داعياً لجعل المرأة موضوعاً يتناوله العلم البتة. فقط عمل على جعل

الجنوكولوجيا ( Jinekoloji) وهو يتناول أمراض النساء فقط، موضوعاً كعلم. ويستغرب كيف إن الحداثة الرأسمالية التي تعمل على جعل كل شيء موضوعاً تبحث في كيفية استغلاله وتسخيره لمصالحها، كيف إنها لم تقم بجعل المرأة موضوعاً للبحث. ربما إنها لم تدخل في بحث كهذا لثقتها بعبودية المرأة التي قد ورثتها من تاريخها. بيد إنها وإن لم تقم بجعل المرأة موضوعاً للبحث العلمي، فإن الجنسوية المفروضة على المرأة قد وصلت للذروة في المرحلة الرأسمالية. أظهر إبعاد ودحض المرأة بكل هذا القدر عن الساحة العلمية ضرورة القيام بالأبحاث العلمية بشأن كل ما يتعلق بالمرأة. لوجود المرأة في كافة ساحات الحياة، ولكون المرأة تمثل نصف المجتمع،  فإن كل ما يتعلق بالمجتمع يتعلق بالمرأة بشكل طبيعي، وهو ساحة على علم المرأة التعمق عليه ودراسته. ولكون الاستعمار المفروض على المرأة يشكل أساس كل المستعمرات، فإن الحلول التي وصل إليه علم المرأة سيجزأ ويشتت كافة الرجعيات المفروضة على المجتمع. لا يقوم علم المرأة بفصل المرأة عن المجتمع والرجل، بيد فن ذلك هو مناقض لمفهوم الحياة الشامل والمتكامل. فهم وتحليل المرأة يعني فهم الذهنية والنظام المهيمن الرجولي الذي فرض الاستعمار عليها. وهو ما يعني تحليل وفهم ما عكس على أساسه على المجتمع أيضاً. علم الجنولوجيا ليس علماً يبحث عن حل قضايا المرأة على أساس جانب واحد فقط، بل إنه يبحث عن كافة القضايا الاجتماعية بمفهوم العدالة الشامل لكافة المجتمع الذي هو ميراث للآلهة الأم.

قد يعجبك ايضا